بقلم : حسين علي باهميل
منذ أن أعلن الجنوب استقلاله في 30 نوفمبر 1967، خرج الناس إلى الشوارع فرحين، يصفقون لبزوغ فجر الحرية بعد أكثر من قرن من الاستعمار البريطاني. كانوا يحلمون بدولة العدالة والمساواة، بدولة تبني الإنسان وتمنحه كرامته، لا تسلبها.
لكن سرعان ما تلاشت تلك الأحلام تحت وقع الصراعات الداخلية التي التهمت ما تبقّى من الحلم، وتحولت الدولة الوليدة إلى ساحة تصفية حسابات سياسية وحزبية ومناطقية، حتى لم يعرف الجنوب يومًا من الاستقرار الحقيقي.
عاش الشعب الجنوبي عقودًا من الخوف والريبة، يتوجس من جاره، ويخشى أن يتحدث بصوتٍ مختلف.
الولاء لم يكن للوطن، بل للحزب، للمنطقة، وللرفيق الأقرب إلى الكرسي.
القرارات كانت تُتخذ من فوق، والمصائر كانت تُحسم في ليلٍ باردٍ من المؤامرات والمواجهات التي لم ترحم أحدًا.
كم من بيتٍ في عدن أو لحج أو شبوة أو حضرموت بكى أبناءه الذين ذهبوا ضحية صراعٍ لا ذنب لهم فيه، وكم من أمٍ بقيت تنتظر عودة ولدها الذي أُبعد أو اختفى أو لجأ بعيدًا لاجئًا في بلادٍ غريبة!
لقد كانت سنوات ما بعد الاستقلال قاسية على الجنوب وأهله، قسوةَ الرفاق على الرفاق، وقسوةَ الجوع والخوف معًا.
فبدلًا من أن تُبنى مؤسسات الدولة على التفاهم والمواطنة، بُنيت على الولاء الحزبي والإقصاء، حتى تحوّل الحلم الوطني إلى سلسلة من الانكسارات المتلاحقة.
ثم جاءت أحداث يناير 1986 لتكشف عمق المأساة، عندما سالت الدماء بين أبناء البيت الواحد، وعمّ التشرد واللجوء، وتفرّق الناس بين شمالٍ استقبلهم، وغربةٍ فرضت نفسها قسرًا.
كانت جراحًا لم تندمل حتى اليوم، فقد عاش الجنوبيون مرارة أن يُنفوا من أرضهم بأيدي إخوتهم، وهي أقسى من أي استعمار.
وحين ضاق القادة بما صنعوا، وبدلًا من أن يوحّدوا الجنوب على أسس جديدة من التصالح والتسامح، هربوا به إلى وحدةٍ مع نظامٍ كان أكثر جهلًا وقسوةً واستبدادًا، ظنًّا منهم أن الوحدة ستمحو الماضي وتفتح طريقًا جديدًا.
لكنهم لم يدركوا أنهم حملوا معهم كل أوجاع الماضي إلى حاضرٍ لم يكن أكثر رحمة، فزاد الألم عمقًا، وزاد الوجع اتساعًا.
اليوم، بعد كل تلك العقود، لا يزال الجنوب يبحث عن نفسه بين ذاكرة الحلم وواقع الخيبة.
جيلٌ كامل وُلد بعد الوحدة لا يعرف من تلك الدولة سوى الحكايات، بعضهم يسمع عن “الزمن الجميل”، وآخرون يعرفون أنه لم يكن جميلًا كما يُقال، بل كان زمنًا مليئًا بالتجارب القاسية التي شكّلت هوية الجنوب ومعاناته معًا.
إن الإنصاف للتاريخ لا يعني تمجيد الماضي ولا جلد الذات، بل أن نعترف بالحقائق كما هي:
الجنوب لم يكن جنة، لكنه أيضًا لم يكن جحيمًا، بل تجربة إنسانية وسياسية معقدة، دفعت فيها الأجيال أثمانًا باهظة من الدم والتشرد والألم.
وما أحوجنا اليوم إلى أن نقرأ تلك المرحلة بصدق، لا بعاطفة الحنين ولا بعدسة الكراهية، حتى نفهم كيف نبني مستقبلًا لا يكرر مآسي الأمس.
واليوم، ما يزال الأمل ممكنًا.
فمن رحم المعاناة يولد الوعي، ومن بين الركام تنبت إرادة الحياة.
الجنوب الذي ذاق مرارات الانقسام قادر على أن يتعلم من تاريخه، وأن ينهض بروحٍ جديدة لا تقوم على الحقد بل على المصالحة، لا على الثأر بل على العدالة، ولا على الماضي بل على بناء الإنسان.
فالأوطان لا تُستعاد بالشعارات، بل تُبنى بالعقول المتسامحة والقلوب المؤمنة بالمستقبل.
وإذا كان الماضي قد علّمنا درس الألم، فليكن المستقبل هو صفحة الأمل، التي يكتبها الجيل الجديد بعقلٍ ناضجٍ وإرادةٍ حرة، لا أسيرة الماضي ولا منقطعة عنه، بل ابنةٌ له تتجاوزه نحو غدٍ أكثر صفاءً وعدلاً وكرام
ومن الإنصاف القول ان ما ينقصنا اليوم ليس تمجيد الماضي او شيطنته بل فهمه بصدق حتى نتعلم منه كيف نبني مستقبلاً أكثر استقرارا و عدلاً لكل اليمنيين جنوباً وشمالاً
